وفاءا لزوجها الشهيد *** بقلم الصحفي غالب سالم عيا صره
بدأت الآم المخاض يغزو خاصرتها ، يضغط على جسدها .. مناوشات تذهب ثم تعود طيلة ليلة الكرامة .. نساء حوطنها يسهرن ، يحاولن تقديم أي شيء يساعدها على الولادة ، إلى أن جاءت ساعة الحسم مع صبيحة النهار ، قبيل الفجر ..أيقظن القابلة ..وراحت ترقب ..
تُهدء حتى كانت الظهيرة ، حيث تمت الولادة لذكر ، تناولته ولفته بقطعة قماش..انطلقت إحدى النسوة بسرعة خارج غرفة الولادة، تبشر الجد الذي مكث ينتظر ومعه كبار السن والأطفال ، ممن لا يستطيعون حمل السلاح للدفاع عن ثرى الوطن ، الذي ما زالت قواتنا الباسلة تدافع عنه ، مشتبكة مع العدو من اجل رفع كلمة الله عالية ، وكي يبقى الوطن وأهله سالمين .
مشت المبشرة خطوات ....صوت مختار القرية ينادي من الخارج ، تراجعت قليلا ، ثم انتظرت لتسمع ما ذا يريد المختار، الذي لا يأتي دون سبب!! وما هي إلا لحظات حتى قال كلماته للجد ، مواسيا ومعزيا ..." إنا لله وإنا إليه راجعون ... ثم سكت برهة وكان الدمع يغرق عينيه ، والحزن يخرس لسانه ، لكنه تشجع وحمل نفسه ، وقال: يا عمي الدنيا رايحه ابنك اليوم شهيد .. شهيد عند ربه .. الله حقق له الشهادة ..الوقت قصير الله يصبرنا، ولم يستطع أن يكمل الحديث ... وراح الإيمان بالله يطوق لسان الجد فلم ينطق إلا بما يرضي الله ، مسح دمعة دلفت على خده ، تمتم قائلا لا حول ولا قوة إلا بالله .. إحنا وأولادنا فدى الوطن.. تابعت المرأة المسير لتقطع الحديث بين الرجلين .. تعاند صوت بكائها الخفي ، وحزنها الذي تمدد على وجهها سوادا وألما وحرقة .. تقدمت تريد تخفيف المُصاب .. تستعلي على الجرح .. أذاعت بصوت مجهش متثاقل .. اللي خلف ما مات .. زوجة المرحوم خلفت الساعة .. والله رزقها ولد ، ثم انسحبت وتركتهم .. همهم المختار .. سبحان الله يحي ويميت .. مات الأب وجاء الابن .. الحمد لله ، وأجهش بالبكاء .
براعم حياة جديدة تخرج من بطون الأمهات ، لحظة خروج أرواح آبائهم إلى بارئها في مخاض الكرامة ، الأصوات والصيحات تشارك بعضها بعضا .. طلقات ..وولادة .. لحظة فرح وحزن ميلاد وموت ، يلتقيان على سرير واحد تزاوج نادرا ما يكون.. دموع تقف حائرة في العيون بين.. بين ، ثوان قاسية ... يأتي خبر الموت مع الميلاد !! فاقت الأم من الم المخاض ، لتتلقى الم المُصاب ، بكت يوم الكرامة ، حزنا ، وفرحا ، فقدت صوابها .. سلمت الأمر لله طواعية محتسبة صابرة ... احتضنت طفلها تربيه وفاءا لزوجها الشهيد ، رغم أنها ما زالت في ريعان شبابها ، وفي السنة الأولى من زواجها.. وأسمت طفلها نصرا .
حمل الشهيد إلى مثواه الأخير على أكتاف زملائه .. عدة طلاقات في الهواء أطلقت مساء يوم الكرامة .. بث المذياع بيانه العسكري في وقت متأخر ، يعلن هزيمة العدو وطرده وملاحقة فلوله ، وان كرامة الوطن جبلت بدم شهدائه الأبرار .. نصر مؤزر.. كسر العدو ورد خائبا .. الله اكبر.. الله اكبر تهللت الوجوه وتضاءل حجم المأساة بالتكبير .
